فصل: (سورة النور: آية 1):

مساءً 4 :15
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} يا عائشة وصفوان {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ} يعني من الذين جاؤا بالإفك {مَّا اكتسب مِنَ الإثم} جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية.
{والذي تولى كِبْرَهُ} والذي تحمّل معظمه فبدا بالخوض فيه، وقراءة العامة {كِبْرَهُ}: بكسر الكاف، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف.
قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث: الولاء للكبر، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسبًا.
وقال الكسائي: هما لغتان مثل صِفر وصُفر، واختلف المفسّرون في المعنيّ بقوله: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فقال قوم: هو حسّان بن ثابت.
روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسّان، وما تمثلت به إلاّ رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء

فانّ أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفؤ ** فشرّ كما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكدّره الدلاء

فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله يقول: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف.
وروى أبو الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسّان بن ثابت فأمرتْ فأُلقي له وسادة، فلمّا خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليكِ وقد قال ما قال، وأنزل الله سبحانه فيه {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟.
فقالت: وأيّ عذاب أشد من العمى، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، وقالت: إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه.
روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث الإفك: ثمَّ ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس. فقال عبد الله بن أُبي رئيسهم: مَن هذه؟ قالوا: عائشة: قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثمَّ جاء يقودها، وشرع في ذلك أيضًا حسّان ومسطح وحمنة فهم الذين تولّوا كبره، ثمَّ فشا ذلك في الناس.
{لَّوْلا} هلاّ {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم {خَيْرًا}.
قال الحسن: بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة، نظيره قوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61].
قال بعض أهل المعاني: تقدير الآية هلاّ ظننتم كما ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا. وقيل: أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم، وقالوا: أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب.
روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أنّ أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أُم أيّوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟
قال: بلى وذلك الكذب أكنت، فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله.
قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله هذا بهتان عظيم، فأنزل الله سبحانه {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات} الآيات، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا.
وقوله: {وَقَالُواْ هذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي كذب بيِّن {لَّوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ} خضتم {فِيهِ} من الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض، وقرأ أُبيّ وابن مسعود: {إذ تتلقّونه بتاءين} وقرأت عائشة: تَلِقُونه بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب، والوَلَق والأَلق والالُق والليق الكذب.
قال الخليل: أصل الولق السرعة وأنشد:
جاؤوا بأسراب من الشام ولق... أي تسرع، يقال: ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه، فكان معنى قراءة عائشة: إذ تستمرّون في إفككم. وقرأ محمد بن السميفع: إذ تُلْقُونه من الإلقاء، نظيره ودليله قوله سبحانه {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] الآية.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} وتظنّونه سهلًا {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ} يحتمل التنزيه والتعجب.
{هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ} أي ينهاكم ويخوّفكم أن تعودوا وقيل: يعظكم الله كيلا تعودوا {لِمِثْلِهِ} إلى مثله {أَبَدًا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات والله عَلِيمٌ} بأمر عائشة وصفوان {حَكِيمٌ} حكم ببراءتها.
{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} تظهر وتفشو وتذيع {فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} يعني عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه المنافقين.
{والله يَعْلَمُ} كذبهم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة النور مدنية، وهي اثنتان وستون آية. وقيل: أربع وستون نزلت بعد الحشر.

.[سورة النور: آية 1]:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
سورة خبر مبتدإ محذوف. {وأَنْزَلْناها} صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أى: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيدا ضربته، ولا محل لأنزلناها، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة أو اتل سورة. وأنزلناها: صفة. ومعنى فَرَضْناها فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أى: جعلناها واجبة مقطوعا بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرّضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيفها، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.

.[سورة النور: آية 2]:

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} أي جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: {فَاجْلِدُوا}، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط، تقديره: التي زنت، والذي زنى فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ} وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر. وقرئ: والزان، بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت: أهذا حكم جميع الزناة والزواني، أم حكم بعضهم؟
قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإنّ المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبى حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول.
إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم رجم يهوديين زنيا. وحجة أبى حنيفة قوله صلى اللّه عليه وسلم: «من أشرك باللّه فليس بمحصن» فإن قلت: اللفظ يقتضى تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لأن قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} عام في الجميع، يتناول المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافيين لجنسى العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ: ولا يأخذكم، بالياء. ورأفة، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين اللّه ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} من باب التهييج وإلهاب الغضب للّه ولدينه وقيل لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضربا. وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا، فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أأنت أرحم بهم منى، فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار» وعن أبي هريرة: إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة. وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائما على مجرّده ليس عليه إلا إزاره، ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا، مفرّقا على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلا ثلاثة: الوجه، والرأس، والفرج. وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة، ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حدّ غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى اللّه عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وما يروى عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا: منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية. أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنة كالحرّ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس الأذى في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}، وقوله تعالى: {فَآذُوهُما}. قيل: تسميته عذابا دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذابا، لأنه يمنع من المعاودة كما سمى نكالا.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلا من المصدقين باللّه. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدا. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر، ولهذا قرنها اللّه بالشرك وقتل النفس في قوله: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا}، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا} وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في الدنيا: فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار» ولذلك وفي اللّه فيه عقد المائة بكماله، بخلاف حد القذف وشرب الخمر. وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل. ويشهد له قول ابن عباس رضي اللّه عنهما: إلى أربعين رجلا من المصدقين باللّه.